أصناف الأموال السلطانية: الصدقات
* (الصدقات) وأما الصدقات، فهي لمن سمى الله تعالى في كتابه، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن رجلا سأله من الصدقة، فقال: إن الله لم يرض في الصدقة، بقسم نبي ولا غيره، ولكن جزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك}. (فالفقراء والمساكين) يجمعها معنى الحاجة إلى الكفاية، فلا تحل الصدقة لغني، ولا لقوي مكتسب (والعاملين عليها) هم الذين يجبونها ويحفظونها ويكتبونها، ونحو ذلك (والمؤلفة قلوبهم) سنذكرهم - إن شاء الله تعالى - في مال الفيء.
* (وفي الرقاب) يدخل فيه إعانة المكاتبين، وافتداء الأسرى، وعتق الرقاب، هذا أقوى الأقوال فيها. (والغارمين) هم الذين عليهم ديون، لا يجدون وفاءها، فيعطون وفاء ديونهم، ولو كان كثيرا، إلا أن يكونوا غرموه في معصية الله تعالى، فلا يعطون حتى يتوبوا (وفي سبيل الله) وهم الغزاة، الذين لا يعطون من مال الله ما يكفيهم لغزوهم، فيعطون ما يغزون به، أو تمام ما يغزون به، من خيل وسلاح ونفقة وأجرة، والحج من سبيل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (وابن السبيل) هو المجتاز من بلد إلى بلد.
أصناف الأموال السلطانية: الفيء
* (الفيء) وأما الفيء، فأصله ما ذكره الله تعالى في سورة الحشر، التي أنزلها الله في غزوة بني النضير، بعد بدر، من قوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}.
* فذكر سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار، والذين جاءوا من بعدهم على ما وصف، فدخل في الصنف الثالث كل من جاء على هذا الوجه إلى يوم القيامة، كما دخلوا في قوله تعالى: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم}. وفي قوله: {والذين اتبعوهم بإحسان} وفي قوله: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم} ومعنى قوله: {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} أي ما حركتم ولا سقتم خيلا ولا إبلا.
* ولهذا قال الفقهاء: إن الفيء هو ما أخذ من الكفار بغير قتال؛ لأن إيجاف الخيل والركاب هو معنى القتال، وسمي فيئا؛ لأن الله أفاءه على المسلمين، أي رده عليهم من الكفار، فإن الأصل أن الله تعالى، إنما خلق الأموال إعانة على عبادته؛ لأنه إنما خلق الخلق لعبادته، فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها، وأموالهم التي لم يستعينوا بها على عبادته، لعباده المؤمنين الذين يعبدونه، وأفاء إليهم ما يستحقونه، كما يعاد على الرجل ما غصب من ميراثه، وإن لم يكن قبضه قبل ذلك، وهذا مثل الجزية التي على اليهود والنصارى والمال الذي يصالح عليه العدو، أو يهدونه إلى سلطان المسلمين كالحمل الذي يحمل من بلاد النصارى ونحوهم، وما يؤخذ من تجار أهل الحرب، وهو العشر، ومن تجار أهل الذمة إذا اتجروا من غير بلادهم، وهو نصف العشر.
* هكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ، وما يؤخذ من أموال من ينقض العهد منهم، والخراج الذي كان مضروبا في الأصل عليهم، وإن كان قد صار بعضه على بعض المسلمين. ثم إنه يجتمع من الفيء جميع الأموال السلطانية التي لبيت مال المسلمين كالأموال التي ليس لها مالك معين، مثل من مات من المسلمين وليس له وارث معين، وكالغصوب، والعواري، والودائع التي عذر معرفة أصحابها، وغير ذلك من أموال المسلمين، العقار والمنقول فهذا ونحوه مال المسلمين. وإنما ذكر الله تعالى في القرآن الفيء فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يموت على عهده ميت، إلا وله وارث معين لظهور الأنساب في أصحابه، وقد مات مرة رجل من قبيلة فدفع ميراثه إلى أكبر تلك القبيلة، أي أقربهم نسبا إلى جدهم، وقد قال بذلك طائفة من العلماء، كأحمد في قول منصوص وغيره، ومات رجل لم يخلف إلا عتيقا له، فدفع ميراثه إلى عتيقه، وقال بذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، ودفع ميراث رجل إلى رجل من أهل قريته وكان صلى الله عليه وسلم هو وخلفاؤه يتوسعون في دفع ميراث الميت، إلى من بينه وبينه نسب كما ذكرناه ولم يكن يأخذ من المسلمين إلا الصدقات، وكان يأمرهم أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، كما أمر الله به في كتابه.
* ولم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة، ديوان جامع، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه، بل كان يقسم المال شيئا فشيئا، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثر المال واتسعت البلاد، وكثر الناس فجعل ديوان العطاء للمقاتلة وغيرهم، وديوان الجيش - في هذا الزمان - مشتمل على أكثره، وذلك الديوان هو أهم دواوين المسلمين. وكان للأمصار دواوين الخراج والفيء وما يقبض من الأموال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يحاسبون العمال على الصدقات والفيء وغير ذلك، فصارت الأموال في هذا الزمان وما قبله ثلاثة أنواع: نوع يستحق الإمام قبضه بالكتاب والسنة والإجماع، كما ذكرناه، ونوع يحرم أخذه بالإجماع، كالجنايات التي تؤخذ من أهل القرية لبيت المال؛ لأجل قتيل قتل بينهم، وإن كان له وارث، أو على حد ارتكب - وتسقط عنه العقوبة بذلك، وكالمكوس التي لا يسوغ وضعها اتفاقا، ونوع فيه اجتهاد وتنازع كمال من له ذو رحم - وليس بذي فرض ولا عصبة، ونحو ذلك.
الظلم الواقع من الولاة والرعية
* وكثيرا ما يقع الظلم من الولاة والرعية: هؤلاء يأخذون ما يحل، وهؤلاء يمنعون ما يجب، كما قد يتظالم الجند والفلاحون، وكما قد يترك بعض الناس من الجهاد ما يجب، ويكنزه الولاة من مال الله، مما لا يحل كنزه، وكذلك العقوبات على أداء الأموال، فإنه قد يترك منها ما يباح أو يجب، وقد يفعل ما لا يحل. والأصل في ذلك: أن كل من عليه مال يجب أداؤه، كرجل عنده وديعة، أو مضارة، أو شركة، أو مال لموكله، أو مال يتيم، أو مال وقف، أو مال لبيت المال، أو عنده دين، هو قادر على أدائه، فإنه إذا امتنع من أداء الحق الواجب من عين أو دين، وعرف أنه قادر على أدائه، فإنه يستحق العقوبة، حتى يظهر المال أو يدل على موضعه فإذا عرف المال، وصير في الحبس فإنه يستوفي الحق من المال، ولا حاجة إلى ضربه به، وإن امتنع من الدلالة على مال ومن الإيفاء، ضرب حتى يؤدي الحق أو يمكن من أدائه، وكذلك لو امتنع من أداء النفقة الواجبة عليه مع القدرة عليها؛ لما روى عمر بن الشريد عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {لي الواجد يحل عرضه وعقوبته.} رواه أهل السنن.
* وقال صلى الله عليه وسلم {مطل الغني ظلم} أخرجاه في الصحيحين واللذي هو المطل والظالم يستحق العقوبة والتعزير وهذا أصل متفق عليه: أن كل من فعل محرما، أو ترك واجبا، استحق العقوبة، فإن لم تكن مقدرة بالشرع كان يجتهد تعزيرا فيه ولي الأمر، فيعاقب الغني المماطل بالحبس، فإن أصر عوقب بالضرب، حتى يؤدي الواجب، وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم رضي الله عنهم عنهم ولا أعلم فيه خلافا. وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء والسلاح، سأل بعض اليهود، وهو سعية عم حيي بن أخطب، عن كنز مال حيي بن أخطب فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال: العهد قريب، والمال أكثر من ذلك فدفع النبي صلى الله عليه وسلم سعية إلى الزبير، فسمه بعذاب، فقال: قد رأيت حييا يطوف؛ في خربة هاهنا، فذهبوا فطافوا، فوجدوا المسك في الخربة} ، وهذا الرجل كان ذميا، والذمي لا تحل عقوبته إلا بحق، وكذلك كل من كتم ما يجب إظهاره من دلالة واجبة ونحو ذلك، يعاقب على ترك الواجب.
وجوه صرف الأموال
* وأما المصارف فالواجب: أن يبتدئ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين، كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة. فمنهم المقاتلة: الذين هم أهل النصرة والجهاد، وهم أحق الناس بالفيء فإنه لا يحصل إلا بهم، حتى اختلف الفقهاء في مال الفيء: هل هو مختص بهم، أو مشترك في جميع المصالح؟ وأما سائر الأموال السلطانية فلجميع المصالح وفاقا، إلا ما خص به نوعا، كالصدقات والمغنم.
القسم الثاني الحدود والحقوق وفيه بابان
حدود الله وحقوقه وفيه ثمانية فصول
أمثلة من تلك الحدود والحقوق
* أمثلة من تلك الحدود والحقوق، وواجب الولاة نحوها وأما قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} فإن الحكم بين الناس، يكون في الحدود والحقوق، وهما قسمان: فالقسم الأول: الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين بل منفعتها لمطلق المسلمين، أو نوع منهم. وكلهم محتاج إليها، وتسمى حدود الله، وحقوق الله مثل: حد قطاع الطريق، والسراق، والزناة ونحوهم، ومثل: الحكم في الأمور السلطانية، والوقوف والوصايا التي ليست لمعين، فهذه من أهم أمور الولايات، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء ". وهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه، وإقامته من غير دعوى أحد به وكذلك تقام الشهادة فيه، من غير دعوى أحد به، وإن كان الفقهاء قد اختلفوا في قطع يد السارق: هل يفتقر إلى مطالبة المسروق بماله؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، لكنهم يتفقون على أنه لا يحتاج إلى مطالبة المسروق، وقد اشترط بعضهم المطالبة بالمال، لئلا يكون للسارق فيه شبهة.
عقوبة المحاربين وقطاع الطرق
* عقوبة المحاربين، وقطاع الطريق الذين يعترضون الناس، في الطرقات ونحوها؛ ليغصبوهم المال، مجاهرة من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وفسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم، قال الله تعالى فيهم: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}. وقد روى الشافعي رحمه الله في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه في قطاع الطريق - إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي وأحمد وهو قريب من قول أبي حنيفة رحمه الله. ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم، فيقتل من رأى قتله مصلحة، وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيها، ويقطع من رأى قطعه مصلحة.
* وإن كان لم يأخذ المال، مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال كما أن منهم من يروي أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا، والأول قول الأكثر، فمن كان من المحاربين قد قتل، فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء. ذكره ابن المنذر ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول، بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة، فإن هذا دمه لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدية؛ لأنه قتله لغرض خاص. وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس، فضررهم عام بمنزلة السراق فكان قتلهم حد الله. وهذا متفق عليه بين الفقهاء حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا، أو القاتل مسلما، والمقتول ذميا أو مستأمنا. فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة؟ والأقوى أنه يقتل لأنه قتل للفساد العام حدا، كما يقطع إذا أخذ أموالهم، وكما يحبس بحقوقهم.
واجب المسلمين إذا طلب السلطان المحاربين وقطاع الطريق فامتنعوا عليه وهذا كله إذا قدر عليهم
* فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه، لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه، فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء، حتى يقدر عليهم كلهم، ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا، وإن أفضى إلى ذلك، سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا. ويقتلون في القتال كيفما أمكن، في العنق وغيره. ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم فهذا قتال، وذاك إقامة حد، وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام فإن هؤلاء قد تحزبوا لفساد النفوس والأموال، وهلاك الحرث والنسل، ليس مقصودهم إدامة دين ولا ملك، وهؤلاء كالمحاربين الذين يأوون إلى حصن، أو مغارة أو رأس جبل، أو بطن واد، ونحو ذلك، يقطعون الطريق على من مر بهم، وإذا جاءهم جند ولي الأمر تطلبهم للدخول في طاعة المسلمين والجماعة؛ لإقامة الحدود، قاتلوهم ودفعوهم مثل الأعراب الذين يقطعون الطريق على الحاج أو غيره من الطرقات أو الجبلة الذين يعتصمون برءوس الجبال أو المغارات؛ لقطع الطريق.
كالأحلاف الذين تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق ويسمون ذلك النهيضة، فإنهم يقاتلون كما ذكرنا. لكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار، إذا لم يكونوا كفارا، ولا تؤخذ أموالهم، إلا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق، فإن عليهم ضمانها فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا، وإن لم تعلم عين الآخر، وكذلك لو علم عينه، فإن الردء والمباشر سواء كما قلناه، لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه، ويرد ما يؤخذ منه على أرباب الأموال، فإن تعذر الرد عليهم كان لمصالح المسلمين، من رزق الطائفة المقاتلة لهم وغير ذلك. بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود ومنعهم من الفساد، فإذا جرح الرجل منهم جرحا مثخنا، لم يجهز عليه حتى يموت، إلا أن يكون قد وجب عليه القتل، وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه، إلا أن يكون عليه حد، أو نخاف عاقبته.
حد السرقة
* وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة، أو الإقرار، تأخيره، ولا مال يفتدى به ولا غيره، بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها، فإن إقامة الحد من العبادات، كالجهاد في سبيل الله فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده فيكون الوالي شديدا في إقامة الحد، لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق، بكف الناس عن المنكرات؛ لإشفاء غيظه، وإرادة العلو على الخلق، به بمنزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن تأديب ولده، كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحا لحاله، مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب، وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم، وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك، بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه، وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة.
* فهكذا شرعت الحدود وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها متى كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات بجلب المنفعة لهم، ودفع المضرة عنهم، وابتغى بذلك وجه الله تعالى، وطاعة أمرهألان الله له القلوب، وتيسرت له أسباب الخير، وكفاه العقوبة البشرية، وقد يرضي المحدود، إذا أقام عليه الحد. وأما إذا كان غرضه العلو عليهم، وإقامة رياسته؛ ليعظموه أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال، انعكس عليه مقصوده ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن يلي الخلافة، كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ساسهم سياسة صالحة، فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب، فسأل أهل المدينة عن عمر كيف هيبته فيكم؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه. قال: كيف محبتكم له؟ قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا قال: فكيف أدبه فيكم؟ قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة قال: هذه هيبته، وهذه محبته، وهذا أدبه، هذا أمر من السماء. وإذا قطعت يده حسمت واستحب أن تعلق في عنقه.
حد الزنا
* وأما الزاني: فإن كان محصنا، فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت، كما {رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك الأسلمي، ورجم الغامدية ورجم اليهودية ورجم غير هؤلاء} ، ورجم المسلمون بعده، واختلف العلماء: هل يجلد قبل الرجم مائة؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره وإن كان غير محصن، فإنه يجلد مائة جلدة بكتاب الله، ويغرب عاما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض العلماء لا يرى وجوب التغريب. ولا يقام عليه الحد حتى يشهد عليه أربعة شهداء، أو يشهد على نفسه أربع شهادات، عند كثير من العلماء أو أكثرهم، ومنهم من يكتفي بشهادته على نفسه مرة واحدة ولو أقر على نفسه، ثم رجع فمنهم من يقول: يسقط عنه الحد، ومنهم من يقول: لا يسقط والمحصن من وطئ، وهو حر مكلف؛ لمن تزوجها نكاحا صحيحا في قبلها، ولو مرة واحدة، وهل يشترط أن تكون الموطوءة مساوية للواطئ في هذه الصفات على قولين للعلماء. وهل تحصن المراهقة للبالغ وبالعكس؟. فأما أهل الذمة، فإنهم محصنون أيضا عند أكثر العلماء، كالشافعي وأحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين عند باب مسجده، وذلك أول رجم كان في الإسلام.
حد شرب الخمر
* وأما حد الشرب: فإنه ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين، فقد روى أهل السنن، عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال: {من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه} وثبت عنه أنه جلد الشارب غير مرة، وهو وخلفاؤه والمسلمون بعده. والقتل عند أكثر العلماء منسوخ وقيل هو محكم يقال: هو تعزير يفعله الإمام عند الحاجة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه ضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين} وضرب أبو بكر رضي الله عنه أربعين، وضرب عمر في خلافته ثمانين، وكان علي رضي الله عنه يضرب مرة أربعين ومرة ثمانين فمن العلماء من يقول: يجب ضرب الثمانين، ومنهم من يقول: الواجب أربعون، والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة، إذا أدمن الناس الخمر، أو كان الشارب ممن لا يرتدع بدونها ونحو ذلك. فأما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب فتكفي الأربعون، وهذا أوجه القولين، وهو قول الشافعي، وأحمد رحمهما الله، في إحدى الروايتين عن أحمد وقد كان عمر رضي الله عنه - لما كثر الشرب - زاد فيه النفي وحلق الرأس مبالغة في الزجر عنه، فلو عزر الشارب مع الأربعين بقطع خبزه أو عزله عن ولايته كان حسنا، وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه عن بعض نوابه، أنه يتمثل بأبيات في الخمر فعزله.
المعاصي التي ليس فيها حد مقدر وبيان الحد الشرعي
* وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة، كالذي يقبل الصبي والمرأة الأجنبية، أو يباشر بلا جماع، أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة، أو يقذف الناس بغير الزنا، أو يسرق من غير حرز، أو شيئا يسيرا، أو يخون أمانته، كولاة أموال بيت المال أو الوقف، ومال اليتيم ونحو ذلك، إذا خانوا فيها، كالولاة والشركاء، إذا خانوا، أو يغش في معاملته، كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك، أو يطفف المكيال والميزان، أو يشهد الزور، أو يلقن شهادة الزور، أو يرتشي في حكمه، أو يحكم بغير ما أنزل الله، أو يعتدي على رعيته، أو يتعزى بعزاء الجاهلية، أو يلبي داعي الجاهلية، إلى غير ذلك من أنواع المحرمات فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا، بقدر ما يراه الوالي، على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته، فإذا كان كثيرا زاد في العقوبة، بخلاف ما إذا كان قليلا، وعلى حسب حال المذنب، فإذا كان من المدمنين على الفجور، زيد في عقوبته، بخلاف المقل من ذلك، وعلى حسب كبر الذنب وصغره، فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم، ما لا يعاقبه من لم يتعرض إلا لمرأة واحدة، أو صبي واحد وليس لأقل التعزير حد، بل هو بكل ما فيه إيلام الإنسان، من قول وفعل وترك قول، وترك فعل، فقد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له، وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة.
كما {هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الثلاثة الذين خلفوا} وقد يعزر بعزله عن ولايته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعزرون بذلك، وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين، كالجندي المقاتل، إذا فر من الزحف، فإن الفرار من الزحف من الكبائر، وقطع خبزه نوع تعزير له، وكذلك الأمير إذا فعل ما يستعظم فعزله من الإمارة تعزير له. وكذلك قد يعزر بالحبس، وقد يعزر بالضرب، وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبا، كما روي عن عمر بن الخطاب، أنه أمر بذلك في شاهد الزور، فإن الكاذب سود الوجه، فسود وجهه، وقلب الحديث، فقلب ركوبه. وأما أعلاه، فقد قيل: " لا يزاد على عشرة أسواط ". وقال كثير من العلماء: لا يبلغ به الحد ثم هم على قولين: منهم من يقول: " لا يبلغ به أدنى الحدود ": لا يبلغ بالحر أدنى حدود الحر، وهي الأربعون أو الثمانون؛ ولا يبلغ بالعبد أدنى حدود العبد، وهم العشرون أو الأربعون.
* وقيل: بل لا يبلغ بكل منهما حد العبد. ومنهم من يقول: لا يبلغ بكل ذنب حد جنسه وإن زاد على جنس آخر، فلا يبلغ بالسارق من غير حرز قطع اليد، وإن ضرب أكثر من حد القاذف، ولا يبلغ بمن فعل ما دون الزنا حد الزنا، وإن زاد على حد القاذف. كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " أن رجلا نقش على خاتمه، وأخذ بذلك من بيت المال، فأمر به فضرب مائة ضربة ثم في اليوم الثاني مائة ضربة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة ضربة وروي عن الخلفاء الراشدين، في رجل وامرأة وجدا في لحاف: " يضربان مائة " وروي {عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الذي يأتي جارية امرأته، إن كانت أخلتها له: جلد مائة، وإن لم تكن أخلتها له: رجم} وهذه الأقوال في مذهب أحمد وغيره، والقولان الأولان في مذهب الشافعي، وغيره.
جهاد الكفار القتال الفاصل
* العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان: أحدهما: عقوبة المقدر عليه، من الواحد والعدد كما تقدم. والثاني: عقاب الطائفة الممتنعة، كالتي لا يقدر عليها إلا بقتال فاصل، هذا هو جهاد الكفار أعداء الله ورسوله، فكل من بلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له، فإنه يجب قتاله {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.
* وكان الله - لما بعث نبيه، وأمره بدعوة الخلف إلى دينه لم يأذن في قتل أحد على ذلك ولا قتاله، حتى هاجر إلى المدينة، فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}.
* ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} وأكد الإيجاب، وعظم أمر الجهاد، في عامة السور المدنية، وذم التاركين له، ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب، فقال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} قال تعالى: {فإذا أنزلت سورة محكمة، وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}.
* وهذا كثير في القرآن، وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله، في سورة الصف التي يقول فيها: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}. وكقوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم}.
* وقوله تعالى: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}. وقال تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنينولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} فذكر ما يولده عن أعمالهم، وما يباشرونه من الأعمال، والأمر بالجهاد، وذكر فضائله في الكتاب والسنة، أكثر من أن يحصر، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع، والصوم التطوع، كما دل عليه الكتاب والسنة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد}. وقال {إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة والدرجة، كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله} متفق عليه.
* وقال {: من اغبر قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار} رواه البخاري وقال صلى الله عليه وسلم: {رباط يوم وليلة، خير من صيام شهر وقيامه. وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان} رواه مسلم. وفي السنن: {رباط يوم في سبيل الله، خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل} ، وقال صلى الله عليه وسلم {عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله} قال الترمذي حديث حسن وفي مسند الإمام أحمد {حرس ليلة في سبيل الله، أفضل من ألف ليلة يقام ليلها، ويصام نهارها}. وفي الصحيحين: {أن رجلا قال: يا رسول الله، أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل الله، قال: لا تستطيع. قال: أخبرني. قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر، وتقوم ولا تفتر؟ قال: لا. قال: فذلك الذي يعدل الجهاد}. وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إن لكل أمة سياحة، وسياحة أمتي الجهاد في سبيل الله}. وهذا باب واسع، لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها، مثل ما ورد فيه، فهو ظاهر عند الاعتبار، فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فإنه مشتمل من محبة الله - تعالى، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله وسائر أنواع الأعمال، على ما لا يشتمل عليه عمل آخر. والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائما، إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة، ثم إن الخلق لا بد لهم من محيا وممات، ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما، فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا، مع قلة منفعتها، فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد، وقد يرغب في ترقية نفسه حتى يصادفه الموت، فموت الشهيد أيسر من كل ميتة، وهي أفضل الميتات.
الحدود والحقوق التي لآدمي معين وفيه ثمانية فصول
النفوس
* وأما الحدود والحقوق التي لآدمي معين فمنها النفوس، قال الله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}.
* وقال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} إلى قوله: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} وقال تعالى {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء} فالقتل ثلاثة أنواع: أحدهما العمد المحض، وهو أن يقصد من يعلمه معصوما بما يقتل غالبا، سواء كان يقتل بحده كالسيف ونحوه، أو بثقله كالسندان وكوذين القصار، أو بغير ذلك كالتحريق والتغريق والإلقاء من مكان شاهق، والخنق، وإمساك الخصيتين، حتى تخرج الروح، حتى يموت، وسقي السموم، ونحو ذلك في الأفعال فهذا رغم الوجه فيه القود، وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل، فإن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله.
* قال الله - تعالى {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} ، قيل في التفسير: لا يقتل غير قاتله، وروي عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله: {من أصيب بدم أو خبل - الخبل الجراح - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه: أن يقتل أو يعفو، أو يأخذ الدية فمن فعل شيئا من ذلك فعاد فإن له جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا} ، رواه أهل السنن قال الترمذي حديث حسن صحيح، فمن قتل بعد العفو أو أخذ الدية فهو أعظم جرما ممن قتل ابتداء، حتى قال بعض العلماء: " إنه يجب قتله حدا ولا يكون أمره لأولياء المقتول " قال تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}.
* قال العلماء: إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ، حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل وأولياءه، وربما لم يرضوا بقتل القاتل، بل يقتلون كثيرا من أصحاب القاتل كسيد القبيلة ومقدم الطائفة، فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء، وتعدى هؤلاء في الاستيفاء كما كان يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات، من الأعراب والحاضرة وغيرهم. وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيما أشرف من المقتول، فيفضى ذلك إلى أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل، وربما حالف هؤلاء قوما واستعانوا بهم، وهؤلاء قوما فيفضي إلى الفتن والعداوات العظيمة. وسبب ذلك خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى فكتب الله علينا القصاص وهو المساواة والمعادلة في القتلى وأخبر أن فيه حياة، فإنه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين، وأيضا علم من يريد القتل أنه يقتل كف عن القتل.
* وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده} رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من أهل السنن فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين تتكافأ دماؤهم - أي تتساوى وتتعادل - فلا يفضل عربي على عجمي، ولا قرشي أو هاشمي على غيره من المسلمين، ولا حر أصلي على مولى عتيق، ولا عالم أو أمير، على أمي أو مأمور. وهذا متفق عليه بين المسلمين، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود فإنه كان بقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم صنفان من اليهود: قريظة والنضير، وكانت تتفضل على قريظة في الدماء، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وفي حد الزنا، فإنهم كانوا قد غيروه من الرجم إلى التحميم وقالوا إن حكم نبيكم بذلك كان لكم حجة، وإلا فأنتم قد تركتم حكم التوراة فأنزل الله تعالى: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} إلى قوله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} إلى قوله: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص}.
* فبين - سبحانه وتعالى - أنه سوى بين نفوسهم، ولم يفضل منهم نفسا على أخرى، كما كانوا يفعلونه إلى وله: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} إلى قوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}. فحكم الله - سبحانه - في دماء المسلمين أنها كلها سواء، خلاف ما عليه الجاهلية وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس في البوادي والحواضر، إنما هي البغي، ترك العدل فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها الأخرى دما أو مالا، أو تعلو عليهم بالباطل ولا تنصفها، ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق، فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء والأموال وغيرها بالقسط الذي أمر الله به ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية، وإذا أصلح مصلح بينهما، فليصلح بالعدل كما قال الله - تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول، فإنه أفضل لهم كما قال تعالى: {والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له}. قال أنس رضي الله عنه: {ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو}. رواه أبو داود وغيره وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله} وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ، هو في المسلم الحر، مع المسلم الحر، فأما الذمي فجمهور العلماء: على أنه ليس بكفء للمسلم، كما أن المستأمن الذي يقدم من بلاد الكفار رسولا أو تاجرا ونحو ذلك، ليس بكفء له وفاقا. ومنهم من يقول: بل هو كفء له، وكذلك النزاع في قتل الحر بالعبد.
الجراح
* والقصاص في الجراح أيضا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع شرط المساواة، فإذا قطع يده اليمنى من مفصل، فله أن يقطع يده كذلك، وإذا قلع سنه، فله أن يقلع سنه، وإذا شجه في رأسه أو وجهه، فأوضح العظم، فله أن يشجه كذلك وإذا لم تمكن المساواة: مثل أن يكسر له عظما باطنا، أو يشجه دون الموضحة، فلا يشرع القصاص، بل تجب الدية المحدودة أو الأرش.
الأعراض
* والقصاص في الأعراض مشروع أيضا: وهو أن الرجل إذا لعن رجلا أو دعا عليه، فله أن يفعل به كذلك. ، وكذلك إذا شتمه شتيمة لا كذب فيها، والعفو أفضل. قال الله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} قال النبي صلى الله عليه وسلم: {المستبان: ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم} ويسمى هذا الانتصار، والشتيمة التي لا كذب فيها مثل الإخبار عنه بما فيه من القبائح أو تسميته بالكلب أو الحمار ونحو ذلك فأما إن افترى عليه، لم يحل له أن يفتري عليه ولو كفره أو فسقه بغير حق لم يحل له أن يكفره أو يفسقه بغير حق ولو لعن أباه أو قبيلته، أو أهل بلده ونحو ذلك، لم يحل له أن يتعدى على أولئك، فإنهم لم يظلموه، وقال الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} فأمر الله المسلمين ألا يحملهم بغضهم للكفار على ألا يعدلوا. وقال: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} فإن كان العدوان عليه في العرض محرما لحقه، بما يلحقه من الأذى جاز القصاص فيه بمثله، كالدعاء عليه ما دعاه، وأما إذا كان محرما لحق الله - تعالى، كالكذب، لم يجز بحال، وهكذا قال كثير من الفقهاء: إذا قتله بتحريق، أو تغريق، أو خنق أو نحو ذلك، فإنه يفعل به كما فعل، ما لم يكن الفعل محرما في نفسه كتجريع الخمر واللواط به، ومنهم من قال: لا قود عليه إلا بالسيف، والأولى أشبه بالكتاب والسنة والعدل.
الفرية ونحوها
* وإذا كانت الفرية ونحوها لا قصاص فيها، ففيها العقوبة بغير ذلك فمنه حد القذف الثابت في الكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}. فإذا رمى الحر محصنا بالزنا أو اللواط فعليه حد القذف، وهو ثمانون جلدة، وإن رماه بغير ذلك عوقب تعزيرا. وهذا الحد يستحقه المقذوف، فلا يستوفى إلا بطلبه باتفاق الفقهاء فإن عفا عنه سقط عند جمهور العلماء، لأن المغلب فيه حق الآدمي كالقصاص والأموال. وقيل: لا يسقط تغليبا لحق الله لعدم المماثلة كسائر الحدود، وإنما يجب القذف، إذا كان المقذوف محصنا، وهو المسلم الحر العفيف.
الأبضاع
* ومن الحقوق الأبضاع، فالواجب الحكم بين الزوجين بما أمر الله - تعالى به، من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فيجب على كل من الزوجين أن يؤدي إلى الآخر حقوقه، بطيب نفس وانشراح صدر فإن للمرأة على الرجل حقا في ماله، وهو الصداق والنفقة بالمعروف، وحقا في بدنه، وهو العشرة والمتعة، بحيث لو آلى منها استحقت الفرقة بإجماع المسلمين، وكذلك لو كان مجبوبا أو عنينا لا يمكنه جماعها فلها الفرقة، ووطؤها واجب عليه عند أكثر العلماء. وقد قيل: إنه لا يجب اكتفاء بالتباعث الطبيعي، والصواب: أنه واجب كما دل عليه الكتاب والسنة والأصول. وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه - لما رآه يكثر الصوم والصلاة -: إن لزوجك عليك حقا} ثم قيل: يجب عليه وطؤها كل أربعة أشهر مرة، وقيل: يجب وطؤها بالمعروف، على قدر قوته وحاجتها، كما تجب النفقة بالمعروف كذلك، وهذا أشبه. وللرجل عليها أن يتمتع بها متى شاء، ما لم يضر بها، أو يشغلها عن واجب، فيجب عليها أن تمكنه كذلك ولا تخرج من منزله إلا بإذنه أو بإذن الشارع واختلف الفقهاء هل عليها خدمة المنزل كالفرش والكنس والطبخ ونحو ذلك؟ فقيل: يجب عليها، وقيل: لا يجب وقيل: يجب التخفيف منه.
الأحوال
* وأما الأحوال فيجب الحكم بين الناس فيها بالعدل كما أمر الله ورسوله، مثل قسم المواريث بين الورثة، على ما جاء به الكتاب والسنة. وقد تنازع المسلمون في مسائل من ذلك، وكذلك في المعاملات من المبايعات والإجارات والوكالات والمشاركات والهبات والوقوف والوصايا ونحو ذلك من المعاملات المتعلقة بالعقود والقبوض، فإن العدل فيها هو قوام العالمين، لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به. فمن العدل فيها ما هو ظاهر، يعرفه كل أحد بعقله، كوجوب تسليم الثمن على المشتري، وتسليم المبيع على البائع للمشتري، وتحريم تطفيف المكيال والميزان، ووجوب الصدق والبيان، وتحريم الكذب والخيانة والغش، وأن جزاء القرض الوفاء والحمد.
* ومنه ما هو خفي، جاءت به الشرائع أو شريعتنا - أهل الإسلام - فإن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات، يعود إلى تحقيق العدل والنهي عن الظلم دقه وجله: مثل أكل المال بالباطل وجنسه من الربا والميسر، وأنواع الربا والميسر التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم مثل: بيع الغرر، وبيع حبل الحبلة، وبيع الطير في الهواء، والسمك في الماء، والبيع إلى أجل غير مسمى، وبيع المصراة، وبيع المدلس، والملامسة، والمنابذة، والمزابنة والمحاقلة والنجش. وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وما نهي عنه من أنواع المشاركات الفاسدة، كالمخابرة، بزرع بقعة بعينها من الأرض. ومن ذلك ما قد ينازع فيه المسلمون لخفائه واشتباهه، فقد يرى هذا العقد والقبض صحيحا عدلا، وإن كان غيره يرى فيه جورا يوجب فساده، وقد قال الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}. والأصل في هذا، أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها، إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه، كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله، إلا ما دل الكتاب والسنة على شرعه، إذ الدين ما شرعه الله، والحرام ما حرمه الله، بخلاف الذين ذمهم الله، حيث حرموا من دون الله ما لم يحرمه الله، وأشركوا بما ما لم ينزل به سلطانا، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، اللهم وفقنا لأن نجعل الحلال ما حللته، والحرام ما حرمته، والدين ما شرعته.
المشاورة
* لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}. وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم}. وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي، من أمر الحروب، والأمور الجزئية وغير ذلك، فغيره صلى الله عليه وسلم أولى بالمشورة. وقد أثنى الله على المؤمنين بذلك في قوله: {وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}.
* وإذا استشارهم، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين فعليه اتباع ذلك ولا طاعة في خلاف ذلك، وإن كان عظيما في الدين والدنيا. قال الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه، ووجه رأيه فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به، كما قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}.
وجوب اتخاذ الإمارة
* يجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم {إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم} ، رواه أبو داود، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو، أن النبي قال: {لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم} فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله - تعالى - أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة. وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة ولهذا روي: {أن السلطان ظل الله في الأرض} ويقال: " ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان ".
* والتجربة تبين ذلك؛ ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: " لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان " وقال النبي صلى ال